جون جوراس: خطاب الى الشّباب

Image

سيّداتي، سادتي، تلاميذي الشّبان،

تحتضنون اليوم في روح من الحرّية، حدثا جديدا مهمّا تعلن عنه علامات كثيرة: السّلام الدّائم بين الدول، السّلام النهائيّ..

انّ الأمر  لا يتعلّق بالاستنقاص من قيمة الحرب في الماضي. فلقد كانت جزء من العمليّة الانسانيّة الكبرى و الانسان أكسبها النبل بالفكر و الشّجاعة، بالبطولة المجيدة و بالاحتقار الشهم للموت. كانت بدون شكّ و لمدّة طويلة، في فوضى الانسانيّة المضطربة و المشبعة بالغرائز الوحشيّة، الوسيلة الوحيدة لحلّ الصراعات.

و كانت أيضا القوّة المهيمنة التي بتأليبها القبائل و الشعوب و الأعراق، خلطت العناصر الانسانيّة و حضّرت لمجموعات أوسع.

و لكن سيأتي يوم، و كلّ القرائن تدلّ على أنّه قريب، تصير فيه الانسانيّة منظّمة  و سيّدة نفسها كفاية لتستطيع أن تحلّ بالعقل و المفاوضات و القانون الصّراعات بين فرقائها و قواها.و الحرب ،مكروهةً حين كانت ضروريّة، هي فظيعة و اجراميّة حين تصير بلا جدوى.

أنا لا أقترح عليكم حلما مثاليّا عقيما. لوقت طويل كانت أفكار السّلام و الوحدة الانسانيّة  تجلّيا راقيا وهميّا و من السّخرية أنّها ألقت الضوء على عمليّات القتل المستمرّة.

هل تتذكّرون اللّوحة الرّائعة التي تركها لنا “فرجيل” عن سقوط طروادة؟ في اللّيل: تؤخذ المدينة على حين غرّة بالحديد و النار، بالمذابح و الحرائق و المآسي. قصر بريام يقتحم و من خلال حطام البوّابات يتراءى صفّ طويل من المباني و المعارض. و من غرفة الى غرفة لاحقت المشاعل و السيوف المهزومين. أطفالا و نساء و شيوخا، التجؤوا عبثا الى مذبح المدينة الذي لم يعد يحميه الاكليل المقدّس من الموت و الغضب.

سالت الدّماء و صرخت كلّ الأفواه من الرعب و الاهانة و الكره. و لكن فوق الاقامة المظطربة و الصّارخة السّاحات الداخليّة، السّقوف المنهارة التى تكشف عن سماء كبيرة ساكنة و جليلة. و صعدت كلّ المطالبة الصّاخبة البشريّة بالعنف و العذاب و الألم نحو نجوم ذهبيّة.

كذلك، منذ عشرين قرنا و من فترة الى أخرى،  في كلّ مرّة سطعت فيها على البشر شعلة من السلام و الوحدة نجم الوحدة و السّلام، أجابت الأرض الممزّقة و المظلمة بنداءات الحرب.

في البداية كان نجم الامبراطوريّة الرّومانيّة الظّافرة التي اعتقدت أنّها قادرة على احتواء كلّ الصّراعات في الاشعاع الكوني لقوّتها. انهارت الامبراطوريّة تحت ضربات البرابرة و أجاب شغبٌ مروّع على السّلام الرّوماني المزعوم.

و ثمّ كان نجم المسيحيّة التي أحاطت الأرض بشعاع من الحنان و وعد بالسلام. و لكنّها، معتدلةً و رقيقةً في آفاق الجليل، صعدت مهيمنة و قاسية في أوروبا الاقطاعيّة. و لم يقم سعي الباباويّة الى اخضاع العالم تحت سلطتها باسم الوحدة الكاثوليكيّة الاّ بتسبيب المزيد من المشاكل و الصّراعات للانسانيّة البائسة.

و كانت التشنّجات و الاغتيالات التي شهدتها أمم العصر الوسيط و الفوضى الدموّية للأمم الحديثة، اجابة تهرّب على الوعد المسيحيّ العظيم بالسلام الكوني.

و قد رفعت الثورة بدورها اشارة عالية الى السّلام الكوني عبر الحرّية الكونيّة. و هكذا تطوّر النضال الثوري ضدّ قوى العالم القديم الى حروب كبيرة.

ماذا اذن؟ هل سنُحرم من السّلم الى الأبد؟

و صخب البشر، الذين دائما ما يكونون متعصّبين و خائبي الأمل، هل سيواصل صعوده نحو النجوم الذهبيّة؟ و العواصم المحترقة بالقذائف كما احترق قصر بريام العتيق بالمشاعل؟

 لا! لا!

و رغم نصائح الحذر  التي تلقّنها لنا الخيبات العظيمة السّابقة، أجرأ على القول، مع ملايين من البشر، أنّ السّلام الانسانيّ ممكن. و اذا أردناه فعلا، فهو قادم.

انّ هناك قوى جديدة تعمل: الديمقراطيّة و علم المناهج و البروليتاريا الكونيّة المتضامنة.

أصبحت الحرب أصعب. لأنّها مع الحكومات الحرّة للديمقراطيّات الحديثة، أصبحت في الآن ذاته خطرا على الجميع بسب الخدمة الاجباريّة الشاملة و جريمة الكل عبر الاقتراع العام.

 الحرب صارت أصعب الآن لأنّ تطوّر العلم يجمع كلّ الشعوب في شبكة متفرّعة، في نسيج أكثر تلاحما كلّ يوم بعلاقات التبادل و الاتفاقيات.

و اذا كان الأثر الاوّل للاكتشافات الملغية للمسافات أحيانا تعقيد النزاعات، فهي تخلق مع مرور الوقت، نوعا من التضامن و التقارب الانسانيّين التي تجعل من الحرب هجوما وحشيّا و نوعا من الانتحار الجماعي.

أخيرا، انّ المشترَك المثاليّ الذي يحمّس و يوحّد العُمّاليّين البروليتاريّين  في كل الدّول يجعلهم أكثر عقلانيّة و صمودا أمام سكرة الحرب و الحساسيّات و العدوان بين الامم و الأعراق.

نعم، كما أنّ التّاريخ أعطى كلمته الأخيرة للجمهوريّة التي كثيرا ما انتهكت و ديست.. سيعطي الكلمة الأخيرة الى السّلام الذي كثيرا ما يسخر منه البشر و تدوسه ضراوة الأحداث و الأهواء.

لست أقول لكم أنّها حقيقة ثابتة، فليس هناك حقائق مؤكّدة تماما في التاريخ. أعلم كم هي عديدة مواضع العلّة في مفاصل الدولة، حيث يمكن أن تنشأ فجأة التهابات عرضيّة شاملة.

إلاّ أنني أعلم كذلك أنّه توجد ميولات جدّ، جدّ قويّة و جدّ مهمّة للسّلام، يرجع اليكم، عبر ارادة واعية، متحرّرة لا تكلّ، تنظيم هذه التوجّهات و أخيرا تحقيق مفارقة السّلم الانسانيّ مثلما حقّق آباؤكم مفارقة الحرّية الجمهوريّة. انّه عمل صعب و لكّنه ليس مستحيلا.

بتهدئة الكراهيّة و الأحكام المسبقة، بالتحالفات و الاتحادات الواسعة، بالاتفاقيّات الدوليّة الاقتصاديّة و الاجتماعيّة، بالتحكيم الدولي و نزع السلاح المتزامن، بتوحّد البشر حول العمل و في دائرة الضوء: سيكون، أيّها الشباب، أعلى مجهود و أرقى انتصار للجيل الصاعد.

لا، لست أقترح حلما خائبا.. و لا أقترح حلما موهنا. فلا يعتقد أحدكم أنّه خلال الفترة التي ستسبق الاتّفاق النهائي للأمم و التي هي بعدُ أكثر صعوبة، أنّنا نريد ان نترك للصُّدفة تطلّعاتنا الى حدّ أدنى من الأمن و الكرامة و الفخر بأوطاننا.

جون جوراس

مقتطفات من خطابه الذي ألقاه سنة 1903 في معهد Albi

ترجمة: رحمة الصغيّر

يمكن الاطّلاع على كامل الخطاب باللّغة الفرنسيّة على هذا الرّابط: http://www.lours.org/default.asp?pid=100

Leave a comment